سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


الضمير في قوله: {وهم} عائد على المذكورين قل، والضمير في {عنه} قال قتادة ومجاهد يعود على القرآن المتقدم ذكره في قوله أن يفهموه وقال ابن عباس وابن الحنفية والضحاك هو عائد على محمد عليه السلام والمعنى أنهم ينهون غيرهم ويبعدون هم بأنفسهم و{النأي} البعد، {وإن يهلكون} معناه ما يهلكون إلا أنفسهم بالكفر الذي يدخلهم جهنم، وقال ابن عباس أيضاً والقاسم وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار المراد بقوله {وهم ينهون عنه} أبو طالب ومن كان معه على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الدوام في الكفر، والمعنى وهم ينهون عنه من يريد إذايته {وينأون عنه} بإيمانهم واتباعهم فهم يفعلون الشيء وخلافه، ويقلق على هذا القول رد قوله {وهم} على جماعة الكفار المتقدم ذكرها، لأن جميعهم لم يكن ينهى عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: ويتخرج ذلك ويحسن على أن تقدر القصد ذكر ما ينعى على فريق فريق من الجماعة التي هي كلها مجمعة على الكفر، فخرجت العبارة عن فريق من الجماعة بلفظ يعم الجماعة، لأن التوبيخ على هذه الصورة أغلظ عليهم، كما تقول إذا شنعت على جماعة فيها زناة وسرقة وشربة خمر هؤلاء يزنون ويسرقون ويشربون الخمر وحقيقة كلامك أن بعضهم يفعل هذا وبعضهم يفعل هذا، فكأنه قال: من هؤلاء الكفرة من يستمع وهم ينهون عن إذايته ولا يؤمنون به، أي: منهم من يفعل ذلك {وما يشعرون} معناه: ما يعلمون علم حسّ، وهو مأخوذ من الشعار الذي يلي بدن الإنسان، والشعار مأخوذ من الشعر، ونفي الشعور مذمة بالغة إذ البهائم تشعر وتحس، فإذا قلت لا يشعر فقد نفيت عنه العلم النفي العام الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات.
قال القاضي أبو محمد: وقرأ الحسن {وينون عنه} ألقيت حركة الهمزة على النون على التسهيل القياسي، وقوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار} الآية المخاطبة فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجواب {لو} محذوف، تقديره في آخر هذه الآية لرأيت هولاً أو مشقات أو نحو هذا، وحذف جوابها في مثل هذا أبلغ لأن المخاطب يترك مع غاية تخيله، ووقعت {إذ} في موضع إذا التي هي لما يستقبل وجاز ذلك لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبر عنه كما يعبر عن الماضي الوقوع، و{وقفوا} معناه: حبسوا، ولفظ هذا الفعل متعدياً وغير متعد سواء، تقول: وقفت أنا ووقفت غيري، وقال الزهراوي: وقد فرق بينهما بالمصدر ففي المتعدي وقفته وقفاً وفي غير المتعدي وقفت وقوفاًَ، قال أبو عمرو بن العلاء: لم أسمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلاناً إلا أني لو لقيت رجلاً واقفاً فقلت له ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسناً، ويحتمل قوله: {وقفوا على النار} أن يكون دخلوها، فكان وقوفهم عليها أي فيها، قاله الطبري، ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها وعاينوها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر: {ولا نكذبُ} ونكونُ بالرفع في كلها، وذلك على نية الاستئناف والقطع في قوله ولا نكذب ونكون أي يا ليتنا نرد ونحن على كل حال لا نكذب ونكون، فأخبروا أنفسهم بهذا ولهذا الإخبار صح تكذيبهم بعد هذا، ورجح هذا سيبويه ومثله بقولك دعنى ولا أعود أي وأنا لا أعود على كل حال، ويخرج ذلك على قول آخر وهو أن يكون ولا نكذب ونكون داخلاً في التمني على حد ما دخلت في نرد، كأنهم قالوا: يا ليتنا نرد وليتنا نكذب وليتنا نكون، ويعترض هذا التأويل بأن من تمنى شيئاً يقال إنه كاذب وإنما يكذب من أخبر.
قال القاضي أبو محمد: وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يكون قوله {وإنهم لكاذبون} [الأنعام: 28] حكاية عن حالهم في الدنيا كلاماً مقطوعاً مما قبله وبوجه آخر وهو أن المتمني إذا كانت سجيته وطريقته مخالفة لما تمنى بعيدة منه يصح أن يقال له كذبت على تجوز، وذلك أن من تمنى شيئاً فتمنيه يتضمن إخباراً أن تلك الأمنية تصلح له ويصلح لها فيقع التكذيب في ذلك الإخبار الذي يتضمنه التمني، ومثال ذلك أن يقول رجل شرير ليتني أحج وأجاهد وأقوم الليل فجائز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لهذا ولا يصلح لك، وروي عن أبي عمرو: أنه أدغم باء نكذب في الباء التي بعدها، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص ولا نكذبَ ونكونَ بنصب الفعلين، وذلك كما تنصب الفاء في جواب التمني، فالواو في ذلك والفاء بمنزلة، وهذا تقدير ذكر مصدر الفعل الأول كأنهم قالوا يا ليتنا كان لنا رد وعدم تكذيب وكون من المؤمنين، وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر {ولا نكذبُ} بالرفع {ونكونَ} بالنصب، ويتوجه ذلك على ما تقدم في مصحف عبد الله بن مسعود {يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا ونكون} بالفاء، وفي قراءة أبي بن كعب {يا ليتنا نرد فلا نكذب بآياتنا أبداً ونكون}، وحكي أبو عمرو أن في قراءة أبي {بآيات ربنا ونحن نكون}، وقوله {نرد} في هذه الأقوال كلها معناه: إلى الدنيا، وحكى الطبري تأويلاً آخر وهو يا ليتنا نرد إلى الآخرة أي نبعث ونوقف على النار التي وقفنا عليها مكذبين ليت ذلك ونحن في حالة لا نكذب ونكون، فالمعنى يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يضعف من غير وجه ويبطله قوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] ولا يصح أيضاً التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى. وإنما يصح التكديب الذي ذكرناه قل هذا على تجوز في تمني المستقبلات.


الضمير في {لهم} عائد على من ذكر في قوله: {وقفوا} و{قالوا} [الأنعام: 27] وهذا الكلام يتضمن أنهم {كانوا يخفون} شيئاً ما في الدنيا فظهر لهم يوم القيامة أو ظهر لهم وبالة وعاقبته، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وحكى الزهراوي عن فرقة أنها قالت: الآية في المنافقين لأنهم كانوا {يخفون} الكفر فبدا لهم وباله يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: وتقلق العبارة على هذا التأويل لأنه قال: {وقفوا} يريد جماعة كفار ثم قال: {بدا لهم} يريد المنافقين من أولئك الكفار، والكلام لا يعطي هذا إلا على تحامل، قال الزهراوي: وقيل إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر به أتباعهم فظهر لهم ذلك يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه والتعظيم لما شقوا به، فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغير ذلك، فكيف الظن على هذا بما كانوا يعلنون من كفر ونحوه، وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة {يوم تبلى السرائر} [الطارق: 9] ويصح أن يقدر الشيء الذي كانوا يخفونه في الدنيا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأقواله، وذلك أنه كانوا {يخفون} ذلك في الدنيا بأن يحقروه عند من يريد عليهم ويصفوه بغير صفته ويتلقوا الناس على الطرق فيقولون لهم هو ساحر هو يفرق بين الأقارب، يريدون بذلك إخفاء أمره وإبطاله، فمعنى هذه الآية على هذا، بل بدا لهم يوم القيامة أمرك وصدقك وتحذيرك وإخبارك بعقاب من كفر الذي كانوا يخفونه في الدنيا، ويكون الإخفاء على ما وصفناه، وقال الزجاج المعنى ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة {يخفون} من البعث.
قال القاضي أبو محمد: فالضميران على هذا ليس لشيء واحد، وحكى المهدوي عن الحسن نحو هذا، وقرأ يحيى بن وثاب والنخعي والأعمش {ولو رِدوا} بكسر الراء على نقل حركة الدال من رددوا إليها، وقوله: {ولو ردوا لعادوا} إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يوجد، وهذا النوع مما استأثر الله بعلمه، فإن أعلم بشيء منه علم وإلا لم يتكلم فيه، وقوله تعالى: {وإنهم لكاذبون} إما أن يكون متصلاً بالكلام ويكون التكذيب في إخبارهم على معنى أن الأمر في نفسه بخلاف ما قصدوا لأنهم قصدو الكذب، أو يكون التكذيب في التمني على التجوز الذي ذكرناه، وإما أن يكون منقطعاً إخباراً مستأنفاً عما هم عليه في وقت مخاطبة النبي عليه السلام، والأول أصوب، وقوله تعالى: {وقالوا إن هي إلا حياتنا} الآية، هذا على تأويل الجمهور ابتداء كلام وإخبار عنهم بهذه المقالة، ويحسن مع هذا أن يكون قوله قبل {وإنهم لكاذبون} مستأنفاً مقطوعاً خبراً عن حالهم في الدنيا التي من قولهم فيها {إن هي إلا حياتنا الدنيا} وغير ذلك، و{إن} نافية، ومعنى الآية التكذيب بالحشر والعودة إلى الله، وقال ابن زيد قوله {وقالوا} معطوف على قوله {لعادوا} أي {لعادوا} لما نهوا عنه من الكفر {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا}.
قال القاضي أبو محمد: وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله: {أليس هذا بالحق} يرد على هذا التأويل وقوله تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا} الآية، بمعنى ولو ترى إذ وقفوا كما تقدم آنفاً من حذف جواب {لو} وقوله: {على ربهم} معناه على حكمه وأمره، ففي الكلام ولا بد حذف مضاف، وقوله: {هذا} إشارة إلى البعث الذي كذبوا به في الدنيا، و{بلى} هي التي تقتضي الإقرار بما استفهم عنه منفياً ولا تقتضي نفيه وجحده ونعم تصلح للإقرار به، كما ورد ذلك في قول الأنصار للنبي عليه السلام حين عاتبهم في الحظيرة عقب غزوة حنين وتصلح أيضاً نعم لجحده، فلذلك لا تستعمل وأما قول الزجاج وغيره: إنها إنما تقتضي جحده وأنهم لو قالوا نعم عند قوله: {ألست بربكم} لكفروا فقول خطأ والله المستعان، وقولهم: بلى وربك إيمان، ولكنه حين لا ينفع، وقوله: {ذوقوا} استعارة بليغة، والمعنى باشروه مباشرة الذائق إذ هي من أشد المباشرات.


هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي حل بهم، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا، وقوله: {بلقاء الله} معناه: بالرجوع إليه وإلى أحكامه وقدرته، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها، و{الساعة} يوم القيامة، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها، وأيضاً فقد تضمنها قوله تعالى: {بلقاء الله} وبغتة معناه فجأة، تقول بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر:
ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة *** وأفظع شيء حين يفجأك البغت
ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول: قتلته صبراً، ولا يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه، ونداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه، قال سيبويه وكأن الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول: اقربي أو احضري فهذا وقتك وزمنك، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع، وفي نداء ما لا يعقل كقولهم يا جمل، ونحو هذا، و{فرطنا} معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير، وهذه حقيقة التفريط، والضمير في قوله {فيها} عائد على {الساعة} أي في التقدمة لها، وهذا قول الحسن، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية. ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار، وعوده على {الساعة} إنما معناه في أمورها والاستعداد لها، بمنزلة زيد في العلم مشتغل.
وقوله تعالى:
{وهم يحملون أوزارهم} الآية، الواو واو الحال، والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب، تقول منه وزر يزر إذا حمل، قال الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام: 164] وتقول وزر الرجل فهو موزور، قال أبو عبيد والعامة مازور، وأما إذا اقترن ذلك بما جوز فإن العرب تقول مأزور، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء لقيهن مقبلات من المقابر: «ارجعن مأزورات غير مأجورات» قال أبو علي وغيره فهذا للإتباع اللفظي، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة موضع حمل الأثقال، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة، وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبراً أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلم عليه ويقول له طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم، قال فيحمله تمثال العمل، وأن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم، قال فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره، وقوله تعالى: {ألا ساء ما يزرون} إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة به، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ألا فليبلغ الشاهد الغائب، وقوله ألا هل بلغت، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا كله يتضمنه {ألا}، وأما {ساء ما يزرون} فهو خبر مجرد كقول الشاعر: [البسيط]
رَضِيت خِطَّةَ خَسْفٍ غًيْرَ طَائِلَةٍ *** فَسَاءَ هَذا رِضى يا قَيْس غيلانَا
و {ساء} فعل ماضٍ و{ما} فاعلة به كما تقول ساءني أمر كذا، ويحتمل أن تجري {ساء} هنا مجرى بئس، ويقدر ما يقدر ل بئس إذ قد جاء في كتاب الله {ساء مثلاً القوم} [الأعراف: 177].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8